فصل: الْأَثر السَّادِس وَالسَّابِع وَالثَّامِن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.ثَالِثهَا، وَرَابِعهَا، وخامسها:

عَن عمر، وَابْن عَبَّاس، وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «أَنهم أوجبوا الزَّكَاة فِي الْحلِيّ الْمُبَاح».
أما أثر عمر فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مساور الْوراق، عَن شُعَيْب ابْن يسَار قَالَ: «كتب عمر إِلَى أبي مُوسَى أَن مُر مَن قِبلك من نسَاء الْمُسلمين أَن يصدقن من حليهن» ثمَّ قَالَ: هَذَا مرسلٌ شُعَيْب بن يسَار لم يدْرك عمر، وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن مساور، عَن شُعَيْب «أَن عمر بن الْخطاب كتب أَن يزكَّى الْحلِيّ». قَالَ البُخَارِيّ: هَذَا مُرْسل.
وَأما أثر ابْن عَبَّاس؛ فحكاه ابْن الْمُنْذر عَنهُ، عَلَى مَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ. قَالَ الشَّافِعِي: وَيروَى عَن ابْن عَبَّاس وَأنس بن مَالك، وَلَا أَدْرِي أيثبت عَنْهُمَا أَنه لَيْسَ فِي الْحلِيّ زَكَاة.
وَأما أثر ابْن مَسْعُود؛ فحكاه ابْن الْمُنْذر، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ، وأسنده الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه من حَدِيث حجاج بن منهال، نَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم عَن ابْن مَسْعُود «أَن امْرَأَته أَتَتْهُ فَقَالَت: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، هَل من حليي زَكَاة؟ قَالَ: نعم. قَالَت: فَإِن بني أخي أَيْتَام أفأجعله فيهم؟ قَالَ: اجعليه فيهم».
وأسنده الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، من حَدِيث سُفْيَان، عَن حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَلْقَمَة «أَن امْرَأَة عبد الله- يَعْنِي ابْن مَسْعُود- سَأَلته عَن حُلِيٍّ لَهَا؟ فَقَالَ: إِذا بلغ مِائَتي دِرْهَم فَفِيهِ الزَّكَاة. قَالَت: أضعها فِي بني أَخ لي فِي حجري؟ قَالَ: نعم».
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ بِشَيْء. قلت أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث قبيصَة، عَن سُفْيَان، عَن حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَلْقَمَة، عَن عبد الله «أَن امْرَأَة أَتَت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: إِن لي حليًّا وَإِن زَوجي خَفِيف ذَات الْيَد، وَإِن لي بني أَخ، أفيجزئ عني أَن أجعَل زَكَاة الْحلِيّ فِيهِ؟ قَالَ: نعم». ثمَّ قَالَ: هَذَا وهم، وَالصَّوَاب عَن إِبْرَاهِيم، عَن عبد الله، مُرْسل مَوْقُوف.

.الْأَثر السَّادِس وَالسَّابِع وَالثَّامِن:

عَن ابْن عمر وَجَابِر وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «أَنهم لم يوجبوا الزَّكَاة فِي الْحلِيّ الْمُبَاح».
أما أثر ابْن عمر فَصَحِيح، رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ يحلي بَنَاته وجواريه بِالذَّهَب فَلَا يخرج مِنْهُ الزَّكَاة».
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَفِي رِوَايَة للبيهقي عَنهُ: «إِنَّه كَانَ يحلي بَنَاته بأربعمائة دِينَار وَلَا يخرج زَكَاته». وَفِي رِوَايَة لَهُ: «لَيْسَ فِي الْحلِيّ زَكَاة». وَفِي رِوَايَة لَهُ: «زَكَاة الْحلِيّ عاريته».
وَأما أثر جَابر فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح، عَن الشَّافِعِي، قَالَ: أَنا سُفْيَان، عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ: «سَمِعت رجلا يسْأَل جَابر بن عبد الله عَن الْحلِيّ: أفيه زَكَاة؟ فَقَالَ جَابر: لَا. فَقَالَ: وَإِن كَانَ يبلغ ألف دِينَار؟ فَقَالَ جَابر: كثير». وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر من حَدِيث دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن جَابر «أَنه سُئِلَ عَن زَكَاة الْحلِيّ فَقَالَ: زَكَاته عاريته».
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، من حَدِيث أبي حَمْزَة، عَن الشّعبِيّ، عَن جَابر: «لَيْسَ فِي الْحلِيّ زَكَاة». ثمَّ قَالَ: أَبُو حَمْزَة هَذَا ضَعِيف الحَدِيث.
وَأما أثر عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فَصَحِيح؛ رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مَالك، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأ، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة «أَنَّهَا كَانَت تلِي بَنَات أَخِيهَا- يتامى فِي حجرها لَهُنَّ الْحلِيّ، فَلَا تخرج مِنْهُ الزَّكَاة».
لَكِن فِي الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبد الْوَهَّاب، أَنا حُسَيْن الْمعلم، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «لَا بَأْس بِلبْس الْحلِيّ إِذا أعطي زَكَاته».
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح.
قلت: وَرُوِيَ مثل مقالتهم عَن أنس بن مَالك وَأَسْمَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
أما أثر أنس فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ والْبَيْهَقِيّ؛ بِإِسْنَاد جيد، من حَدِيث عَلّي بن سليم قَالَ: «سَأَلت أنس بن مَالك عَن الْحلِيّ فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ زَكَاة».
وَأما أثر أَسمَاء فروياه أَيْضا، بإسنادٍ جيد، عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر، عَن أَسمَاء بنت أبي بكر «أَنَّهَا كَانَت تحلي بناتها الذَّهَب وَلَا تزكيه، نَحْو من خمسين ألف».
قَالَ الْأَثْرَم: سَمِعت أَبَا عبد الله يَقُول فِي زَكَاة الْحلِيّ عَن خَمْسَة من أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يرَوْنَ فِيهِ زَكَاة، وهم أنس وَجَابِر وَابْن عمر وَعَائِشَة وَأَسْمَاء.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة: وَمن قَالَ: لَا زَكَاة فِي الْحلِيّ زعم أَن الْأَحَادِيث والْآثَار الْوَارِدَة فِي وجوب الزَّكَاة فِيهِ حِين كَانَ التحلي بِالذَّهَب حَرَامًا عَلَى النِّسَاء، فَلَمَّا أُبِيح لَهُنَّ سَقَطت زَكَاته. قَالَ: وَكَيف يَصح هَذَا القَوْل مَعَ حَدِيث عَائِشَة- إِن كَانَ ذكر الْوَرق فِيهِ مَحْفُوظًا- وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ عَنْهَا «أَنَّهَا دخلت عَلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأَى فِي يَدهَا صخابًا من ورق، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَة؟ فَقَالَت: صنعتهن أتزين لَك بهنَّ يَا رَسُول الله. قَالَ: أتؤدين زكاتهن؟ قَالَت: لَا، قَالَ: هُوَ حَسبك من النَّار».
وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ مَجْهُول. وَتَبعهُ ابْن الْجَوْزِيّ، وَخَالفهُ الْبَيْهَقِيّ وَابْن الْقطَّان فَقَالَا: هُوَ مَعْرُوف. وَهُوَ الصَّوَاب، فَهُوَ من رجال الصَّحِيحَيْنِ.
وَأما ابْن حزم فَإِنَّهُ أعلَّه بِيَحْيَى بن أَيُّوب الغافقي، وَهُوَ من رجال مُسلم، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى فِي رِوَايَة، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ، لَا جرم قَالَ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه: إِنَّه عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: غير أَن رِوَايَة الْقَاسِم وَابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة فِي تَركهَا إِخْرَاج زَكَاة الْحلِيّ، مَعَ مَا ثَبت من مَذْهَبهمَا من إِخْرَاج الزَّكَاة عَن أَمْوَال الْيَتَامَى، فَوَقع رِيبَة فِي هَذِه الرِّوَايَة المرفوعة، فَهِيَ لَا تخَالف النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا ترويه إِلَّا فِيمَا عَلمته مَنْسُوخا.

.بَاب: زَكَاة التِّجَارَة:

ذكر فِيهِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَحَادِيث وأثرًا وَاحِدًا.
أما الْأَحَادِيث فَثَلَاثَة:

.الحديث الأول:

عَن أبي ذَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «فِي الْإِبِل صدقتها، وَفِي الْبَقر صدقتها، وَفِي الْغنم صدقتها وَفِي الْبَز صدقته».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، من طرق عَن أبي ذَر، إِحْدَاهَا: من حَدِيث أبي عَاصِم، عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة الربذي، قَالَ: حَدثنِي عمرَان بن أبي أنس، عَن مَالك بن أَوْس بن الْحدثَان، عَنهُ مَرْفُوعا، كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء.
وَقَالَ عِنْد قَوْله: «وَفِي الْبَز صدقته» قَالَهَا بالزاي.
ثَانِيهَا: من حَدِيث سعيد بن سَلمَة، نَا مُوسَى، عَن عمرَان، عَن مَالك، عَنهُ مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء، ثمَّ قَالَ: كتبته من الأَصْل الْعَتِيق، وَفِي الْبَز مُقَيّد.
ثَالِثهَا: من حَدِيث عبد الله بن مُعَاوِيَة، نَا مُحَمَّد بن بكر، عَن ابْن جريج، عَن عمرَان، عَن مَالك، عَنهُ مَرْفُوعا بِهِ، سَوَاء، إِلَّا أَنه قَالَ: لم يذكر الْبَقر.
وَرَوَاهُ أَحْمد، عَن مُحَمَّد بن بكر، عَن ابْن جريج، عَن عمرَان، بلغه عَنهُ، عَن مَالك بن أَوْس بِهِ، وَذكر الْبَقر.
والطريقان الْأَوَّلَانِ معللان بمُوسَى بن عُبَيْدَة الربذي، وَقد ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ أَحْمد: لَا تحل الرِّوَايَة عَنهُ. وَالطَّرِيق الثَّالِث مُعَلل بِعَبْد الله بن مُعَاوِيَة، وَلَا أعلم حَاله، وَلَا أتحقق أَنه عبد الله بن مُعَاوِيَة بن عَاصِم الضَّعِيف، وَإِن كَانَ ابْن حبَان ذكره فِي ثقاته وَقَالَ: رُبمَا يُخَالف، يعْتَبر بحَديثه إِذا بيَّنَ السماع فِي رِوَايَته.
فَإِن سلم أَنه هُوَ فقد صرح هُنَا بِالتَّحْدِيثِ، فَقَالَ: نَا مُحَمَّد بن بكر. كَمَا سلف، وَجزم ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَحْقِيقه بِأَنَّهُ المضعف، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: إسنادها حسن وَإِن كَانَ عبد الله فِيهِ أدنَى كَلَام.
قلت: وَلم ينْفَرد بِهِ، بل تَابعه عَلَيْهِ يَحْيَى بن مُوسَى كَمَا سَيَأْتِي، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ لَا يعرف إِلَّا بمُوسَى بن عُبَيْدَة وَهُوَ ضَعِيف، عَن عمرَان بن أبي أنس. قَالَ: فَأَما رِوَايَة ابْن جريج عَن عمرَان فَلَا تصح إِلَى ابْن جريج. قَالَ: وَعبد الله بن مُعَاوِيَة هَذَا لَا يعرف حَاله.
وَأقرهُ صَاحب الإِمام عَلَى هَذِه الْمقَالة. قَالَ ابْن الْقطَّان: فَإِن قلت: قد رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن بكر غَيره، وَهُوَ يَحْيَى بن مُوسَى الْبَلْخِي الْمَعْرُوف بخت وَهُوَ ثِقَة. فَالْجَوَاب: أَن الْمُؤَاخَذَة إِنَّمَا هِيَ عَلَى رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ، عَلَى أَن لرِوَايَة ابْن جريج عَن عمرَان لَو صحت من رِوَايَة يَحْيَى بن مُوسَى شَأْنًا آخر وَهُوَ الِانْقِطَاع. قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي كتاب الْعِلَل: نَا يَحْيَى بن مُوسَى، نَا مُحَمَّد بن بكر ثَنَا ابْن جريج، عَن عمرَان، عَن مَالك، عَن أبي ذَر قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: «فِي الْإِبِل صدقتها، وَفِي الْغنم صدقتها، وَفِي الْبَقر صدقتها، وَفِي الْبَز صدقته» ثمَّ قَالَ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَن هَذَا الحَدِيث؟ فَقَالَ: ابْن جريج لم يسمع من عمرَان بن أبي أنس، يَقُول: حدثت عَن عمرَان بن أَبَى أنس. انْتَهَى. وَقد أسلفنا ذَلِك عَن رِوَايَة أَحْمد.
قَالَ ابْن الْقطَّان: فَالْحَدِيث عَلَى هَذَا مُنْقَطع، وَابْن جريج لم يقل: نَا عمرَان وَهُوَ مُدَلّس.
قلت: قد أخرجه الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه من حَدِيث سعيد بن سَلمَة بن أبي الحسام، نَا عمرَان بن أبي أنس، عَن مَالك بن أَوْس، عَن أبي ذَر، مَرْفُوعا كَمَا سلف. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه من هَذَا الْوَجْه أَيْضا، فَهَذِهِ الطَّرِيقَة سَالِمَة من الِانْقِطَاع. ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: تَابعه ابْن جريج عَن عمرَان، ثمَّ سَاقه كَمَا سلف، ثمَّ قَالَ: كلا الإسنادين صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَاعْترض الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الإِمام عَلَى ابْن الْقطَّان، فَقَالَ: مَا ذكره من جِهَة التِّرْمِذِيّ عَن يَحْيَى بن مُوسَى، يَقْتَضِي صِحَّته إِلَى ابْن جريج، لَا كَمَا ذكر أَولا، وَالتَّعْلِيل بالانقطاع غير التَّعْلِيل بِعَدَمِ الصِّحَّة إِلَى ابْن جريج. قَالَ: وَطَرِيق ابْن جريج أخرجهَا الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك من غير جِهَة عبد الله بن مُعَاوِيَة، عَن مُحَمَّد بن بكر، فتزول الْعلَّة الَّتِي ذكرهَا ابْن الْقطَّان فِي كَون الحَدِيث لَا يَصح إِلَى ابْن جريج، ثمَّ سَاقه من حَدِيث الْحَاكِم، من طَرِيق ابْن جريج، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا وَإِن كَانَ يزِيل مَا اعْترض بِهِ من عدم الصِّحَّة إِلَى ابْن جريج، فَلَا يزِيل مَا ذكر عَن البُخَارِيّ من أَن ابْن جريج لم يسمع من عمرَان، فَمن هَذَا الْوَجْه يسْتَدرك عَلَى الْمُسْتَدْرك ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ الْحَاكِم من جِهَة سعيد بن سَلمَة، ثَنَا عمرَان بن أبي أنس، فَهَذَا الْوَجْه خرج مِنْهُ ابْن جريج عَن عمرَان، وَقد وَقع فِيهِ التَّصْرِيح بِسَمَاع سعيد مِنْهُ، وَهُوَ من رجال مُسلم.
ثمَّ اعْترض عَلَى الْحَاكِم فِي قَوْله: إِن الإسنادين عَلَى شَرطهمَا بِأَن قَالَ: كِلَاهُمَا يرجع إِلَى عمرَان بن أبي أنس، وَهُوَ مَذْكُور فِيمَن انْفَرد مُسلم بِهِ فَكيف يكون عَلَى شَرطهمَا؟ قلت: قد أسلفنا فِي أَوَائِل كتَابنَا هَذَا أَن مُرَاد الْحَاكِم بقوله: عَلَى شَرطهمَا أَو عَلَى شَرط أَحدهمَا أَن رِجَاله ثِقَات احْتج الشَّيْخَانِ أَو أَحدهمَا بمثلهم لَا أَنهم أنفسهم، فَلَا إِيرَاد عَلَيْهِ إِذن.
ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك أَن ابْن الْجَوْزِيّ ذكر الطّرق الثَّلَاثَة الأول، من عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ، عَلَى وَجه الِاحْتِجَاج بهَا، وقَالَ إِن الطَّرِيق الَّتِي فِيهَا عبد الله بن مُعَاوِيَة أصلح من اللَّتَيْنِ قبلهَا؛ لأجل مُوسَى بن عُبَيْدَة؛ فَإِنَّهُ أَشد ضعفا.
وَعِنْدِي أَن طَريقَة الْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ من جِهَة سعيد بن سَلمَة أولَى مِنْهَا وَلم يعْتَبر بهَا ابْن الْجَوْزِيّ.
فَائِدَة: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «وَفِي الْبَز صدقته» هُوَ بِفَتْح الْبَاء وبالزاي، هَكَذَا رَوَاهُ، وَصرح بالزاي الدَّارَقُطْنِيّ كَمَا سلف، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنَيْهِمَا.
قَالَ أهل اللُّغَة: الْبَز: هِيَ الثِّيَاب الَّتِي هِيَ أَمْتعَة الْبَزَّاز. قَالَ النَّوَوِيّ فِي تهذيبه: وَهَذَا التَّقْيِيد وَإِن كَانَ ظَاهرا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ، فَإِنَّمَا قيدته بِهِ لِأَن بَعضهم صحفه بِالْبرِّ بِالْبَاء وَالرَّاء.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الإِمام: ثمَّ اعْلَم أَن هُنَا أَمر لابد من التَّنْبِيه عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ أَن الأَصْل الَّذِي نقلت مِنْهُ من كتاب الْمُسْتَدْرك لَيْسَ فِيهِ الْبَز بالزاي الْمُعْجَمَة، وَفِيه ضم الْبَاء فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَيحْتَاج إِلَى كشف من أصل آخر مُعْتَبر، فَينْظر إِلَى الْمُوَافقَة والمخالفة، فَإِن اتّفق عَلَى ضمة الْبَاء فَلَا يكون دَلِيلا عَلَى مَسْأَلَة زَكَاة التِّجَارَة، فَليعلم ذَلِك، فَإِنَّمَا قصدنا الْخُرُوج عَن الْعهْدَة.
قلت: الْوَاقِع فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ السالفة وَالْبَيْهَقِيّ التَّقْيِيد بِأَنَّهُ بالزاي يزِيل هَذَا التَّوَقُّف. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.

.الحديث الثَّانِي:

عَن سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرنَا أَن نخرج الزَّكَاة مِمَّا نعده للْبيع».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث جَعْفَر بن سعد ابْن سَمُرَة بن جُنْدُب، قَالَ: حَدثنِي خبيب- يَعْنِي بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة- ابْن سُلَيْمَان، عَن أَبِيه سُلَيْمَان بن سَمُرَة، عَن سَمُرَة بن جُنْدُب: «أما بعد، فَإِن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْمُرنَا أَن نخرج الصَّدَقَة من الَّذِي يعد للْبيع».
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه من حَدِيث أبي عمر مَرْوَان ابْن جَعْفَر بن سعد بن سَمُرَة بن جُنْدُب قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن خبيب بن سُلَيْمَان بن سَمُرَة بن جُنْدُب، عَن جَعْفَر بن سعد بن سَمُرَة بن جُنْدُب، عَن خبيب بن سُلَيْمَان بن سَمُرَة بن جُنْدُب، عَن أَبِيه، عَن سَمُرَة بن جُنْدُب: «بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من سَمُرَة بن جُنْدُب إِلَى بنيه سَلام عَلَيْكُم، أما بعد، فَإِن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْمُرنَا برقيق الرجل وَالْمَرْأَة الَّذِي هُوَ تلاد لَهُ وهم عملة لَا يُرِيد بيعهم، فَكَانَ يَأْمُرنَا أَن لَا نخرج عَنْهُم من الصَّدَقَة شَيْئا، وَكَانَ يَأْمُرنَا أَن نخرج من الرَّقِيق الَّذِي يعد للْبيع».
وَإسْنَاد هَذَا الحَدِيث جيد، وَخَالف أَبُو مُحَمَّد بن حزم فَقَالَ: سَاقِط؛ لِأَن جَمِيع رُوَاته مَا بَين سُلَيْمَان بن مُوسَى وَسمرَة مَجْهُولُونَ، لَا يعرف من هم. وَتَبعهُ ابْن الْقطَّان فَقَالَ: مَا من هَؤُلَاءِ من يعرف حَاله، وَقد جهد المحدثون فيهم جهدهمْ، وَهُوَ إِسْنَاد تروى بِهِ جملَة أَحَادِيث، ذكر الْبَزَّار مِنْهَا نَحْو الْمِائَة. وَلَيْسَ كَمَا قَالَا، فسليمان هَذَا الَّذِي هَذَا الحَدِيث عِنْده عَن جَعْفَر هُوَ الزُّهْرِيّ، رَوَى عَنهُ مَرْوَان الطاطري- وَقَالَ: ثِقَة- وَجَمَاعَة أُخر، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: حَدِيثه مُسْتَقِيم مَحَله الصدْق، صَالح الحَدِيث.
وجعفر بن سعد وخبيب ووالده سُلَيْمَان بن سَمُرَة ذكرهم ابْن حبَان فِي ثقاته فَقَالَ: جَعْفَر بن سعد بن سَمُرَة الْفَزارِيّ، يروي عَن خبيب ابْن سُلَيْمَان، رَوَى عَنهُ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن خبيب. وَقَالَ فِي تَرْجَمَة خبيب: خبيب بن سُلَيْمَان بن سَمُرَة بن جُنْدُب الْفَزارِيّ، يروي عَن أَبِيه، رَوَى عَنهُ جَعْفَر بن سعد أَبُو سُلَيْمَان. وَقَالَ فِي تَرْجَمَة وَالِده سُلَيْمَان بن سَمُرَة بن جُنْدُب الْفَزارِيّ، يروي عَن أَبِيه، رَوَى عَنهُ عَلّي بن ربيعَة وخبيب بن سُلَيْمَان ابْنه. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي مِيزَانه: جَعْفَر بن سعد عَن أَبِيه، وَعنهُ سُلَيْمَان بن مُوسَى وَغَيره، لَهُ هَذَا الحَدِيث وَغَيره عَن خبيب، ردّه ابْن حزم فَقَالَ: هما مَجْهُولَانِ. وخبيب هَذَا يجهل حَاله عَن أَبِيه. قلت: قد ذكره ابْن حبَان فِي ثقاته. قَالَ: وَقَالَ عبد الْحق:
خبيب ضَعِيف وَسكت عَنهُ فِي الْجِهَاد، وَقَالَ مرّة: إِنَّه لَيْسَ بالمشهور، وَلَا أعلم رَوَى عَنهُ إِلَّا جَعْفَر بن سعد، وَلَيْسَ جَعْفَر مِمَّن يعْتَمد عَلَيْهِ.
قَالَ الذَّهَبِيّ: وَسليمَان هَذَا زهري من أهل الْكُوفَة لَيْسَ بالمشهور. وَقَالَ فِي تَرْجَمَة خبيب: إِنَّه- أَعنِي خبيبًا- لَا يعرف. قَالَ: وَبِكُل حَال هَذَا إِسْنَاد مظلم لَا ينْهض بِحكم.
قلت: لَا يسلم لَهُ ذَلِك، فقد قَالَ ابْن عبد الْبر: ذكره أَبُو دَاوُد وَغَيره بِالْإِسْنَادِ الْحسن، عَن سَمُرَة. وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ فِي عمدته الْكُبْرَى: إِسْنَاده مقارب، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب: فِيهِ رجال لَا أعرف حَالهم، وَلَكِن لم يُضعفهُ أَبُو دَاوُد فَهُوَ حسن أَو صَحِيح عَلَى قَاعِدَته.
وَقَالَ شَيخنَا فتح الدَّين الْيَعْمرِي: هَذَا إِسْنَاد لَا بَأْس بِهِ، وَأَقل مراتبه أَن يكون حسنا؛ فَإِن جَعْفَر بن سعد مَسْتُور الْحَال، وخبيب وَأَبوهُ وثقهما ابْن حبَان. قلت: وَكَذَا جَعْفَر أَيْضا كَمَا أسلفناه عَنهُ.

.الحديث الثَّالِث:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول».
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَابه وَاضحا.
انتهي الْكَلَام عَلَى الْأَحَادِيث.

.وَأما الْأَثر:

مَا اعْتَمدهُ الشَّافِعِي عَن أبي عَمْرو بن حماس، أَن أَبَاهُ حماسًا قَالَ: «مَرَرْت عَلَى عمر بن الْخطاب وَعَلَى عنقِي أدمة أحملها، فَقَالَ: أَلا تُؤدِّي زكاتك يَا حماس؟ فَقلت: مَا لي غير هَذَا وَأهب فِي الْقرظ. قَالَ: ذَلِك مَال فضع. فَوَضَعتهَا بَين يَدَيْهِ، فحسبها، فَوجدت قد وَجب فِيهَا الزَّكَاة، فَأخذ مِنْهَا الزَّكَاة».
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث حَمَّاد بن زيد، نَا يَحْيَى بن سعيد، عَن أبي عَمْرو بن حماس، أَو عَن عبد الله بن أبي سَلمَة، عَن أبي عَمْرو بن حماس، عَن أَبِيه أَنه قَالَ: «كنت أبيع الْأدم والجعاب، فمرّ بِي عمر بن الْخطاب، فَقَالَ لي: أدِّ صَدَقَة مَالك. فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّمَا هُوَ فِي الْأدم. قَالَ: قوّمه ثمَّ أخرج صدقته».
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، نَا يَحْيَى بن سعيد عَن عبد الله بن أبي سَلمَة، عَن أبي عَمْرو بن حماس؛ أَن أَبَاهُ قَالَ: مَرَرْت بعمر بن الْخطاب... فَذكره، وَقَالَ فِيهِ فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا لي غير هَذِه الَّتِي عَلَى ظَهْري وأهبة فِي الْقرظ. فَقَالَ: ذَاك مَال بدل مَا ذكر وَالْبَاقِي بِمثلِهِ سَوَاء.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ جَعْفَر بن عون، عَن يَحْيَى مُخْتَصرا قَالَ: «كَانَ حماس يَبِيع الْأدم والجعاب، فَقَالَ لَهُ عمر: أدِّ زَكَاة مَالك. فَقَالَ: إِنَّمَا مَالِي جعاب وأدم فَقَالَ: قوِّمه وأدّ زَكَاته».
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا عَن سُفْيَان، نَا ابْن عجلَان، عَن أبي الزِّنَاد، عَن أبي عَمْرو بن حماس، عَن أَبِيه. مثل رِوَايَة سُفْيَان الأولَى.
وَفِي رِوَايَة لسَعِيد بن مَنْصُور عَن حماس- وَكَانَ يَبِيع الْأدم- قَالَ: «قَالَ لي عمر بن الْخطاب: يَا حماس، أدّ زَكَاة مَالك. فَقلت: مَا لي مَال، إِنَّمَا أبيع الْأدم. قَالَ: قوّمه وأدّ زَكَاة مَالك. فَفعلت».
وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق كَمَا حَكَاهُ أَبُو عمر عَنهُ، عَن الثَّوْريّ عَن يَحْيَى بن سعيد عَن أبي سَلمَة، عَن ابْن حماس، عَن أَبِيه. وجَهَّلَ ابنُ حزمٍ حماسًا وَابْنه، فَقَالَ: أَبُو عَمْرو ابْن حماس مَجْهُول كأبيه فَقَالَ: وروينا من طَرِيق عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل، نَا عَارِم بن الْفضل، قَالَ: سَمِعت أَبَا الْأسود- هُوَ حميد بن الْأسود- يَقُول: ذكرت لمَالِك بن أنس حَدِيث ابْن حماس فِي الْمَتَاع يزكَّى، عَن يَحْيَى بن سعيد. فَقَالَ مَالك: يَحْيَى قماش.
قَالَ ابْن حزم: مَعْنَاهُ أَنه يجمع القماش، وَهُوَ الكناسة، أَي يروي عَمَّن لَا قدر لَهُ وَلَا يسْتَحق.
فَائِدَة: حِمَاس بِكَسْر الْحَاء وَتَخْفِيف الْمِيم وَآخره سين مُهْملَة. وَقَوله: أدمة اعْلَم أَن الْأَدِيم يجمع عَلَى أَدم، بِفَتْح الْهمزَة، وَعَلَى آدمة بِأَلف بعد الْهمزَة، كرغيف وأرغفة. وَأما الأَدمة بِفَتْح الْهمزَة وَالدَّال وبالتاء فَهُوَ بَاطِن الْجلد الَّذِي يَلِي اللَّحْم والْبشرَة ظَاهرهَا، كَذَا قَالَه الْجَوْهَرِي، وحينئذٍ فَيتَعَيَّن عَلَى مَا نَقله أَن تكون اللَّفْظَة الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الحَدِيث إِنَّمَا هِيَ جمع الْأَدِيم؛ فَإِن الْمَفْتُوحَة لَا يظْهر ضمهَا هُنَا. والإهاب: الْجلد، وَجمعه أَهَب، بِفَتْح الْهمزَة وَالْهَاء، عَلَى غير الْقيَاس، كأديم وأدم. وَقد قَالُوا أَيْضا: أُهب بِالضَّمِّ. قَالَه الْجَوْهَرِي وَمُقْتَضَى كَلَامه أَن الأول هُوَ الْمَعْرُوف.

.بَاب: زَكَاة الْمَعْدن والركاز:

ذكر رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ ثَمَانِيَة أَحَادِيث:

.الحديث الأول:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أقطع بِلَال بن الْحَارِث الْمُزنِيّ الْمَعَادِن الْقبلية وَأخذ مِنْهَا الزَّكَاة».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك فِي موطئِهِ عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن، عَن غير وَاحِد من عُلَمَائهمْ «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أقطع لِبلَال بن الْحَارِث الْمُزنِيّ معادن الْقبلية، وَهِي من نَاحيَة الْفَرْع» فَتلك الْمَعَادِن لَا يُؤْخَذ مِنْهَا إِلَّا الزَّكَاة إِلَى الْيَوْم.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي سنَنه كَذَلِك. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن الْحُسَيْن بن إِسْحَاق، عَن هَارُون بن عبد الله، عَن مُحَمَّد بن الْحسن، عَن حميد بن صَالح، عَن عمَارَة وبلال ابْني يَحْيَى بن بِلَال بن الْحَارِث، عَن أَبِيهِمَا، عَن جدهما بِلَال بن الْحَارِث الْمُزنِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أقطعه هَذِه الْقطعَة، وَكتب لَهُ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، هَذَا مَا أعْطى مُحَمَّد رَسُول الله بِلَال بن الْحَارِث، أعطَاهُ معادن الْقبلية غوريها وجلسيها وَذَات النصب وَحَيْثُ صلح للزَّرْع من قدس إِن كَانَ للزَّرْع صَالحا وَكتب مُعَاوِيَة».
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه فِي تَرْجَمَة بِلَال بن الْحَارِث بِسَنَدِهِ إِلَى حميد، وَقَالَ: بدل عمَارَة: الْحَارِث وَذكر الْبَاقِي مَعَ اخْتِلَاف يسير.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك بِلَفْظِهِ السالف، ثمَّ قَالَ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُثبتهُ أهل الحَدِيث، وَلَو ثبتوه لم تكن فِيهِ رِوَايَة عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا إقطاعه، فَأَما الزَّكَاة فِي الْمَعَادِن دون الْخمس فَلَيْسَتْ مروية عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه: هُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِي، فِي رِوَايَة مَالك. قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن عبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي، عَن ربيعَة مَوْصُولا. فَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَن نعيم بن حَمَّاد، عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن، عَن الْحَارِث بن بِلَال بن الْحَارِث، عَن أَبِيه «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ من الْمَعَادِن الْقبلية الصَّدَقَة، وَإنَّهُ أقطع بِلَال بن الْحَارِث العقيق أجمع، فَلَمَّا كَانَ عمر بن الْخطاب قَالَ لِبلَال: إِن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقطعك إِلَّا لتعمل. قَالَ: فأقطع عمر بن الْخطاب للنَّاس العقيق».
وَرَوَاهُ من هَذَا الْوَجْه الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَلم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ، وَقد احْتج البخارى بنعيم بن حَمَّاد، وَمُسلم بالدراوردي.
قلت: نعيم والدراوردي لَهما مَا يُنكر، والْحَارث لَا أعرف حَاله، لَا جرم قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الْإِلْمَام: لعلّ الْحَاكِم علم حَال الْحَارِث. وَرَوَاهُ أَيْضا فِي مُسْتَدْركه فِي تَرْجَمَة بِلَال، من وَجه آخر كَمَا سلف.
قَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: هَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأ عِنْد جَمِيع الروَاة مُرْسلا، وَلم يخْتَلف فِيهِ عَن مَالك، وَذكر أَن الدَّرَاورْدِي رَوَاهُ عَن ربيعَة، عَن الْحَارِث بن بِلَال بن الْحَارِث الْمُزنِيّ، عَن أَبِيه، وَقَالَ أَيْضا: وَإسْنَاد ربيعَة فِيهِ صَالح حسن.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي محلاه: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء؛ لِأَنَّهُ مُرْسل. وَمنع ابْن الْجَوْزِيّ تَسْمِيَته بذلك، فَقَالَ فِي تَحْقِيقه بعد استدلاله بِهِ: إِن قيل قَوْله: عَن غير وَاحِد يَقْتَضِي الْإِرْسَال. قُلْنَا: ربيعَة قد لَقِي الصَّحَابَة، وَالْجهل بالصحابي لَا يضر، وَلَا يُقَال: هَذَا مُرْسل. قَالَ: ثمَّ قد رَوَاهُ الدَّرَاورْدِي، عَن ربيعَة، عَن الْحَارِث بن بِلَال، عَن بِلَال؛ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَخذ مِنْهُ زَكَاة الْمَعَادِن الْقبلية، قَالَ: قَالَ ربيعَة: وَهَذِه الْمَعَادِن تُؤْخَذ مِنْهَا الزَّكَاة إِلَى هَذَا الْوَقْت. قَالَ: وَرَوَاهُ ثَوْر، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، مثل حَدِيث بِلَال.
قلت: وَله طَرِيق آخر أخرجه أَبُو دَاوُد، من حَدِيث كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف الْمُزنِيّ، عَن أَبِيه، عَن جده أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أقطع بِلَال بن الْحَارِث الْمُزنِيّ معادن الْقبلية جلسيها وغوريها، وَحَيْثُ يصلح الزَّرْع من قدس وَلم يُعْطه حق مُسلم، وَكتب لَهُ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، هَذَا مَا أعْطى مُحَمَّد رَسُول الله بِلَال بن الْحَارِث الْمُزنِيّ، أعطَاهُ معادن الْقبلية جلسها وغورها، وَحَيْثُ يصلح الزَّرْع من قدس، وَلم يُعْطه حق مُسلم».
قَالَ أَبُو دَاوُد: ونا غير وَاحِد، عَن حُسَيْن بن مُحَمَّد، نَا أَبُو أويس، قَالَ: وحَدثني ثَوْر بن يزِيد، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله. زَاد ابْن النَّضر: وَكتب أبي بن كَعْب. وَكثير هَذَا ضَعَّفُوهُ، وَأَبُو أويس عبد الله بن عبد الله أخرج لَهُ مُسلم، وَضَعفه غير وَاحِد.
قَالَ ابْن عبد الْبر فِي تمهيده: كثير مجمع عَلَى ضعفه لَا يحْتَج بِمثلِهِ، وَهُوَ غَرِيب من حَدِيث ابْن عَبَّاس، لَيْسَ يرويهِ غير أبي أويس عَن ثَوْر.
قلت: وَأَبُو أويس قد علمت حَاله. قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي: وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، عَن أَبِيه أبي أويس، وَعَن عَمه مُوسَى ابْن يسَار جَمِيعًا عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس. وَنقل عبد الْحق فِي الْأَحْكَام عَن ابْن عبد الْبر أَنه قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: إِنَّه مُنْقَطع. وَلم أر ذَلِك فِي تمهيده وَلَا استذكاره، وَقد تعقبه ابْن الْقطَّان فَقَالَ: نعم هُوَ مُنْقَطع؛ من أجل أَن أَبَا دَاوُد قَالَ: نَا غير وَاحِد عَن حُسَيْن بن مُحَمَّد.
فَائِدَة فِي ضبط مَا وَقع من الْأَلْفَاظ الغريبة الَّتِي قد تصحف: الْفَرْع بِضَم الْفَاء وَبعدهَا رَاء سَاكِنة؛ كَذَا قيدها الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي فِي المؤتلف، قَالَ: وَهُوَ قَرْيَة من نَاحيَة الربذَة عَن يسَار السقيا، بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة ثَمَانِيَة برد، وَقيل: أَربع لَيَال، بهَا مِنْبَر ونخل ومياه، وَهِي لقريش وَالْأَنْصَار وَمُزَيْنَة. وضبطها الْبكْرِيّ بِضَم الأول وَالثَّانِي وَالْعين الْمُهْملَة، وَقَالَ: حجازي من أَعمال الْمَدِينَة الواسعة والصفراء، وأعمالها من الْفَرْع ومضافة إِلَيْهِمَا. وَكَذَا ضَبطهَا الْمُنْذِرِيّ فِي مُخْتَصر السّنَن ثمَّ قَالَ: وسكَّن الْفَاء بَعضهم. قَالَ: وَهُوَ مَوضِع بِأَعْلَى الْمَدِينَة، وَاسع، عَلَى طَرِيق مَكَّة، وَفِيه مَسَاجِد النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومنابره، وقرى كَثِيرَة. وَقَالَ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب: هُوَ مَوضِع بَين نَخْلَة وَالْمَدينَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي تهذيبه: هِيَ قَرْيَة ذَات نخل وَزرع ومياه جَامِعَة، بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، عَلَى نَحْو أَربع مراحل من الْمَدِينَة. قَالَ الْبكْرِيّ: وَالْفرع من أشرف ولايات الْمَدِينَة.
والقبلية: بِفَتْح الْقَاف، وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْمَفْتُوحَة أَيْضا وَكسر اللَّام بعْدهَا، كَذَا ضَبطه الْبكْرِيّ فِي مُعْجَمه، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الْإِلْمَام وَالنَّوَوِيّ فِي تهذيبه ومَجْمُوعه وَادَّعَى فِي مَجْمُوعه أَنه لَا خلاف فِي هَذَا الضَّبْط، قَالَ: وَقد تصحف، قَالَ: وَهُوَ مَوضِع من نَاحيَة الْفَرْع.
وَلَيْسَ كَمَا ادَّعَاهُ من نفي الْخلاف؛ فقد نقل الْمُنْذِرِيّ فِي حَوَاشِيه عَن كتاب الْأَمْكِنَة أَن الْقبلية بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء ثمَّ قَالَ: وَالْمَحْفُوظ فِي الحَدِيث أَن الْقبلية مَنْسُوب إِلَى قبل بِفَتْح الْقَاف وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي نَاحيَة من سَاحل الْبَحْر، بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة خَمْسَة أَيَّام.
وجَلْس: بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون اللَّام ثمَّ سين مُهْملَة، قَالَ الْأَصْمَعِي: كل مُرْتَفع جلْس. والغوْر: مَا انخفض من الأَرْض، يُرِيد أَنه أقطعه وِهَادَهَا ورُبَاها، هَذَا كَلَامه. وَيُقَال لنجد جَلْس، قَالَ أَبُو عبيد وَابْن قُتَيْبَة: الغَوْريُّ: مَا كَانَ من بِلَاد تهَامَة، والجلْس: مَا كَانَ من بِلَاد نجد.
وقُدْس: بِضَم الْقَاف وَسُكُون الدَّال، جبل مَعْرُوف من جبال تهَامَة، قَالَه الْبكْرِيّ. وَهُوَ جبل العَرْج. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: قُدس مُؤَنّثَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: قدس جبل مَعْرُوف، وَقيل: هُوَ الْموضع الْمُرْتَفع الَّذِي يصلح للزِّرَاعَة. قَالَ: وَفِي كتاب الْأَمْكِنَة إِنَّه قديس، وَقدس جبلان، وَأما قَدَس بِفَتْح الْقَاف وَالدَّال فموضع بِالشَّام.
وَوَقع فِي أبي دَاوُد: جِرسها بِكَسْر الْجِيم ثمَّ رَاء مُهْملَة، وَالْمَحْفُوظ بِاللَّامِ وَفتح الْجِيم.